الاثنين، 1 أكتوبر 2012

وفاءً بالعهد - قصة قصيرة -


 الساعة الرابعة عصرًا إلا خمس دقائق، وموعد قطاري في الرابعة تمامًا، إلا أنني عن غير هدى وقبل أن أدخل المحطة، وجدتني داخل التجمع المُحتشد وسط الطريق المقابل للمحطة أُمعن النظر في وجهه، وكأن القدر ألقى بي وسط الحشد ليكلمني فيه، أحقًا هو ذاك الرجل الثلاثيني ذي اللحية الصغيرة التي تزين وجهه والابتسامة الخفيفة التي لم تغادر ثغره الذي يعلوه شارب مغولي؟! حتى عصاه الصغيرة لم تفارقه وهو على حاله هذا! هل ضاقت الدنيا علّي وعليه لتجمعنا في هذا الموقف المهيب فأراه ولا يراني كعادته؟ هكذا هي الدنيا حين تُكشر عن أنيابها دون رحمة فتفجعنا دائمًا فيمن نحب ونعرف، روحه التي سحرتني قد فاضت إلى بارئها، و لم يتبقى منه إلا جسد نحيل تغطيه أوراق الجرائد ينتظر سيارة الإسعاف لتحمله إلى ما قُدر له وكتب. أحقًا قُضي الأمربهذه السرعة؟! وكأن الحياة بأكملها تمخضت في جسد غُطي بجرائد يراقبه المارة بأعين الرحمة و الأسى، يا الله، يا عظيم، أهكذا يتجدد اللقاء به؟!
جلست مصدومًا على الرصيف المقابل أتابع صديقي الذي لا أعرف عنه إلا ٱسمه وبعضًا من أخبار أسرته وعنوان بيته، فهكذا قص علّي يوم لقيته بعد صلاة الفجر بمسجد سيدنا الحسين؛ حيث يتجمع المئات لأداء صلاة الفجر في هذا المسجد العتيق المعبق برائحة المسك الممتزجة بروح المكان العتيق، ولأننا كنا في شهر رمضان المعظم، فقد زاد الٱحتشاد، وكان أن رأيت صاحبنا يجلس إلى أحد العمدان بجواري يتمتم بالتسابيح بصوت مسموع، وبجواره عصا جعلتني أدرك أنه كفيف. ٱنتظرت إلى أن أتم تسبيحه حتى إذا هم بالنهوض أخذت بيده وٱصطحبته في طريقي إلى خارج المسجد، ليتوجه كل منا إلى وجهته بعد ذلك، لكن رغبة ٱجتاحتني في أن أسأله عن وجهته بعدما خرجنا لعلها تكون هي ذات الوجهة التي أقصدها، أخبرني هو أنه ذاهب إلى محطة مصر، تعلقت ثانية بيده وأخبرته أنه نفس طريقي فأنا ذاهب إلى ميدان رمسيس.
إبتسم وقال بلهجة أهل الصعيد: -زين يا أفندي أهو أكسب فيك صواب و أوصلك بدل ما إنت عمال تخبط في خلق الله.
ضحكت وضحك هو كثيرًا، و لم أعرف ماذ أقول، ثم جذبني من يدي لنستكمل المسير؛ قطعنا خان الخليلي ثم سرنا بٱتجاه سيارات الأجرة المتراصة مقابل المسجد الأزهر، و ٱستقلينا سيارة متجهة إلى ميدان رمسيس، شقت السيارة طريقها بسهولة على غير عادة السير في القاهرة، ولكن في مثل هذا الوقت تسير كل الأمور بهدوء و يسر.
جذب هو طرف الحديث وسألني: إنت منين يا أفندي؟
- من هنا
قال ضاحكًا: وأنا من هناك عندينا.
- وتطلع فين هناك عنديكم دي؟
- من الصعيد، محافظة المنيا.
- أهل الصعيد أحسن ناس.
- ربنا يكرمك يا أفندي، دا من أصلك.
توقفت السيارة، فهبطت منها وأمسكت بيده ثم أكملنا السير ٱتجاه المحطة.
سألته مازحًا: و كنت جاي من الصعيد علشان تصلي الفجر في سيدنا الحسين؟
أجاب بخفة ظله المعتادة: لا، جاي علشان أوصلك رمسيس.
ضحكت هذه المرة كثيرًا، و ٱستكملنا السير نحو المحطة ونحن نتضاحك، ثم سألته جادًا: قولي بجد إنت كنت بتعمل إيه في القاهرة؟
تغيرت قسمات وجهه قليلًا، و ٱكتست بمسحة حزن ممتزجة بجدية، ثم أجاب بحسم كأنه يريد أن يقطع دابر هذا السؤال: بشتغل هنا يا أفندي.
ثم صمت بعدها، و صمتُّ أنا أيضًا، شعرت أنني قد تجاوزت حدود الكلام المتاحة بيننا، بالرغم من أنه يبدو سؤالًا عاديا، ولكن بالمنطق ماذا يمكن أن يعمل كفيف في هذه المدينة الموحشة، التي لا تترك مجالًا للأصحاء أن يستريحوا من عناء الشقاء فيها؟! فهيئته الرثة ويده التي لا تحمل إلا عصا، تجعل المرأ يظن أن
عمل واحد يناسبه، ويشتغل به الآلاف هنا ممن هم على نفس حاله، وربما يكونوا أصح مني، و لكن تلك هي الحياة في القاهرة، آلاف الشحاذين يعملون هنا، و الآلاف أيضًا يمنون عليهم ببعض المال، و ملايين أخرى تتعفف فتظل تدور في دوامة الحياة هنا و تصارع من أجل البقاء، فلا هي تأخذ و لا هي تُعطي، و أظن أن صاحبنا هذا ألّح عليه الطبع الصعيدي، و تناسى حاجته حتى أنه رفض أن أدفع له أجرة السيارة، وربما شعر أنني صديق أراد أن يتحرر معه من قيد الحاجة وأسرها، كان هذا كل ما دار برأسي، ولم أقطع بأنه كذلك ولكنني فقط توقعت.


ظللنا صامتين طوال هذه المدة حتى أن غدونا على الرصيف المقابل للمحطة، قطعت الصمت وقلت له: إيه يا عم حارمنا من ضحكتك ليه؟
إبتسم وكأنه يريد أن يخفي ما بدى على وجهه ثم قال: معنديش غيرها يا أفندي أتقوت بيها ع الدنيا، يعني من غير الضحكة هعرف أعيش؟!
أدركت عمق كلماته و قلت له: هو من غير ضحكتك دي إحنا اللي نعرف نعيش، صحيح أنا لسه معرفتش ٱسمك.
- إنت لس فاكر يا أفندي؟ دا احنا قربنا نوصل الصعيد، و مع ذلك ٱسمي حسين.
- عاشت الأسامي يا حسين، و أنا ٱسمي محمد.
- على ٱسم النبي صلى الله عليه و سلم، عاشت الأسامي يا أستاذ محمد.
- عليه أفضل الصلاة و السلام، تسلم يا حسين.
دخلنا إلى أروقة المحطة، وسط تدافع المسافرين وسعيهم الدؤوب نحو الرصيف.
قال هو منبهًا: رصيف 11 قطر الساعة خمسة إلا تلت.

قلت له مطمئنًا: الساعة لسه أربعة و نص، باقي عشر دقايق.
وإذا به يقول لي: أوعى تكون فاكرني بشحت يا أفندي علشان أتفسح، أنا بصرف على أبويا المشلول وأختي الصغيرة اللي لسه في إعدادية ومرات أبويا، لولاش الظروف بس يا أستاذ محمد كنت بقيت أحسن من البرادعي اللي بيطلع في التلفزيون دا بتاع الثورة.
- إنت متابع السياسة.
- أمال يا أفندي أنا فرحت قوي بالثورة في أولها، كنت فاكر إني هعيش من غير ما أمد إيدي، بس مفيش جديد يا أفندي الحال هوا الحال، واديني أهو متشحطط في القطرات، أجي مصر أول الأسبوع وأرجع في آخره.
- بكره الحال يتصلح يا حسين بس إنت ادعي و الشعب خلاص فاق وبكره يجيلك حقك.
- يارب يا أفندي، احنا مش عايزين غير الستر.
وصلنا إلى رصيف 11 ثم أجلسته على أحد كراسي المحطة في ٱنتظار القطار، وبمجرد أن جلس، قال لي: خدمة أخيره يا أفندي.
- عنيا ليك يا حسين.
- خد يا أفندي عدلي الفلوس دي.
أخذتها منه ثم شرعت بعدها، عملات ورقية كثيرة ومعدنية أكثر من مختلف الفئات أتممت العد، مائتين وثلاثة عشر جنيه بالتمام والكمال، ثم أخرجت عشرة جنيهات من جيبي لأضعها بين النقود، ففوجئت أن حسين يتابعني بأذنه، وأنا أتمتم بالعد، وبمجرد أن انتهيت.
قال لي: خلاص كدا يا أفندي متطلعش فلوس من جيبك، إحنا أصحاب، عيب.
صمت و دهشت من قوة ملاحظته ثم أعطيته النقود وأخبرته قدرهم.
دوى صوت القطار بالمحطة ليعلن للمسافرين عن أن وقت الرحيل عن القاهرة قد حان، يمد حسين يده إلي لينهض ويقول لي بلهجة لا تخلو من عاطفة و كرم: لازم تيجي تنورنا في الصعيد يا أفندي، أنا بعزمك أهو وهستناك، و العنوان ميتوهش، تنزل المحطة وتركب سرفيس الحبشي وتنزل آخر الخط واسأل عن بيت الحج محمود سليمان، تيجي في أي يوم جمعة هتلاقيني مستنيك.
قلت له ممتنًا: بإذن الله يا حسين هاجي أزورك في يوم.
قال لي وعلامات رضا على وجهه تدل على أنه كان جادا حقًا فيما قال: خلاص يا أفندي وعد الحر دين عليه.
ٱحتضنته وكأنه صديق لي أعرفه منذ زمن وبادلني هو العناق ثم أخذته وذهبت به إلى أحد المسافرين وعهدت له بأن يصطحبه معه في القطار إلى أن يهبط محطة المنيا، فقبل الرجل بترحاب وظللت واقفا على الرصيف إلى أن هم القطار بالتحرك، فما كان من حسين إلا أن أخرج رأسه من شباك القطار وهتف: "وعد الحر دين عليه يا أفندي"، ثم ٱبتعد القطار وٱبتعد معه حسين، وعاد القطار ولم يعد حسين.
ٱنطلقت إلى يومي ولساني يردد من دون وعي مني "سيرفيس الحبشي آخر الخط بيت عم محمود سليمان"، أردت أن أحفظ العنوان، حتى أفي بوعدي له بزيارته، وها أنا قد جئت لأفي بالعهد، ولكنه القدر كان أسرع مني و أسرع من أن يتداركه بشر، هذا هو حسين المبتسم دائما مستلقٍ أمامي على الرصيف البارد لا حول له ولا قوة، مات قبل أن تتحقق أمنيته بألا يمد يده إلى غريب أو قريب، فهكذا هو الحال في بلادنا يعيش ويموت فيها الكثيرون دون أن تتحقق أسمى أمانيهم وهي "الستر" !!
قمت من مكاني و ذهبت إلى ضابط الشرطة وأخبرته أنني أعرف صاحب الجثمان، و أعرف بيته، فهو صديقي، قال لي الضابط بأسى: البقية في حياتك.
- حياتك الباقية.
- طيب كدا هنحتاجك معانا في إنهاء إجراءات الدفن.
- أنا معاكم يا أفندم لحد ما نوصل حسين لأهله.
ربت الضابط على كتفي و قال: شد حيلك و أهي عربية الإسعاف وصلت
ركبنا سيارة الإسعاف لتبدأ رحلتنا إلى الحبشي حيث دعاني حسين لبيته.


تمت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبدالحليم حفينة
1/10/2012

هناك 3 تعليقات:

  1. جميله ومجذبه جدا

    ردحذف
  2. رااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااائعة
    نوران

    ردحذف
  3. المنيااااااا احسن ناس
    نوران

    ردحذف