الخميس، 9 مايو 2013

ثورة التشكيك.. ثورة تأكل الثورة!



البعض منا يعتبر أن الخطر الأعظم الذي يواجه الثورة هو الإخوان بتطرفهم وطغيانهم، وتشبثهم بالدولة القمعية ظنًا منهم أنها تحمي وجودهم، ولا أنكر أن ذلك من أشد الأخطار التي تواجه الثورة وأهدافها، ولكن إذا ارتضينا بأن نعيد ترتيب أولويات المخاطر؛ سنجد أن الخطر الأكبر كامن داخل الثورة ذاتها بتنظيماتها وحركاتها وشخوصها، إن الخطر الذي قد يحرق الثورة ويطفئ جذوتها في قلوب المصريين يكمن في نظرية التخوين والتشكيك في كل شئ، فما أكثر أن تسمع اليوم في ميادين الثورة لفظة "أمنجي"! بل تخطى الأمر حاجز الإتهامات والشكوك إلى أن وصل للتعدي بالضرب والسباب والطرد من التظاهرة، ورأيت ذلك بعيني، وكان الدليل على عمالة  الشخص الذي حدث معه ذلك أمامي؛ أنه كان يصور بكاميرته التظاهرة!! وسمعت كثير من الحكايات من أصدقائي الثوريين أيضًا التي لا تقل عن ما رأيته.. وأحسب أن بتمادي هذه الأفة أن يعزف الكثير من الناس عن المشاركة في أي فاعلية ثورية ولهم ومعهم في ذلك كل الحق، فربما لهيئة أحدهم التي لا تروق للبعض، أو لكونه لا يجيد صنعة الهتاف والتسلق على الظهور، أو لأنه لا يعرف لتملق مشاهير الثوار طريقًا، فيغدو بذلك ممن تترصدهم الأعين وتُطلق عليه لفظة "أمنجي" فيخاصم الثورة ويهجرها.

ورغم ذلك لا أنفي مُطلقًا إندساس عناصر أمنية داخل صفوف الثوار، ولكن ما أنكره وأمقته هو آلية نبذهم التي قد تُخرج من الثورة أنبل وأطهر من فيها أحيانًا، ويرجع القصور في ذلك من وجهة نظري إلى سوء التنظيم، وعدم التنسيق الجيد بين الحركات الثورية، وعدم توحيد المطالب، والإسراف في النزول للشارع بدون هدف واضح، وكل ذلك أدى في النهاية إلى عدم ضخ دماء جديدة، وعدم المقدرة على إستقطاب عوام الناس للتعبير عن سخطهم على أحوالهم وسوء تدبير النظام لها، وأصبحنا نجد الفاعليات قاصرة على الثوار أعضاء الحركات والتنظيمات الثورية فقط!!
لماذا لم نعد نرى التظاهرات تخرج من المناطق الشعبية بدلًا من إنحصارها في بؤر معروفة للأمن يسهل السيطرة عليها وتفريقها؟!! وإذا كانت الثورة بكوادرها لا تستطيع توجيه غضب الناس ضد النظام، وإستقطاب أصحاب الحقوق وضمهم إلى ركاب الثورة، فلماذا إذًا نتشدق بالدفاع عن حقوق الناس ونحن لا نسمح لهم بأن يعلو صوتهم بيننا؟!
الحل الوحيد من وجهة نظري لطرد "الأمنجية" من صفوف الثورة هو التنظيم الجيد المتفق على آلياته بين كل المشاركين، وفك جميع الحركات الثورية والتوحد في كيان واحد، ففهمي للتعدد هو وجود إختلاف في الأفكار وهذا طبيعي ومقبول جدًا في الأحزاب السياسية ذات التوجهات المختلفة، أما ان تجد الفكرة الثورية الواحدة مقسمة بين عشرات التنظيمات والحركات، وكل حركة يحدث بداخلها خلاف شخصي تنقسم إلى حركتين أوأكثر؛ فسوء التنظيم ونبرة الأنا - المتعالية - والتشرذم والتخوين، كل هذا هو الخطر الأعظم على الثورة لأنه يأكل الثورة من الداخل، فلن يجد الإخوان أو الفلول بعد ذلك ثورة يحاربوها وسيسودوا كما ساد الظالمون من قبل لعشرات السنين..
إستقيموا أو اعتزلوا.

عبدالحليم حفينة
9/5/2013

الاثنين، 1 أكتوبر 2012

وفاءً بالعهد - قصة قصيرة -


 الساعة الرابعة عصرًا إلا خمس دقائق، وموعد قطاري في الرابعة تمامًا، إلا أنني عن غير هدى وقبل أن أدخل المحطة، وجدتني داخل التجمع المُحتشد وسط الطريق المقابل للمحطة أُمعن النظر في وجهه، وكأن القدر ألقى بي وسط الحشد ليكلمني فيه، أحقًا هو ذاك الرجل الثلاثيني ذي اللحية الصغيرة التي تزين وجهه والابتسامة الخفيفة التي لم تغادر ثغره الذي يعلوه شارب مغولي؟! حتى عصاه الصغيرة لم تفارقه وهو على حاله هذا! هل ضاقت الدنيا علّي وعليه لتجمعنا في هذا الموقف المهيب فأراه ولا يراني كعادته؟ هكذا هي الدنيا حين تُكشر عن أنيابها دون رحمة فتفجعنا دائمًا فيمن نحب ونعرف، روحه التي سحرتني قد فاضت إلى بارئها، و لم يتبقى منه إلا جسد نحيل تغطيه أوراق الجرائد ينتظر سيارة الإسعاف لتحمله إلى ما قُدر له وكتب. أحقًا قُضي الأمربهذه السرعة؟! وكأن الحياة بأكملها تمخضت في جسد غُطي بجرائد يراقبه المارة بأعين الرحمة و الأسى، يا الله، يا عظيم، أهكذا يتجدد اللقاء به؟!
جلست مصدومًا على الرصيف المقابل أتابع صديقي الذي لا أعرف عنه إلا ٱسمه وبعضًا من أخبار أسرته وعنوان بيته، فهكذا قص علّي يوم لقيته بعد صلاة الفجر بمسجد سيدنا الحسين؛ حيث يتجمع المئات لأداء صلاة الفجر في هذا المسجد العتيق المعبق برائحة المسك الممتزجة بروح المكان العتيق، ولأننا كنا في شهر رمضان المعظم، فقد زاد الٱحتشاد، وكان أن رأيت صاحبنا يجلس إلى أحد العمدان بجواري يتمتم بالتسابيح بصوت مسموع، وبجواره عصا جعلتني أدرك أنه كفيف. ٱنتظرت إلى أن أتم تسبيحه حتى إذا هم بالنهوض أخذت بيده وٱصطحبته في طريقي إلى خارج المسجد، ليتوجه كل منا إلى وجهته بعد ذلك، لكن رغبة ٱجتاحتني في أن أسأله عن وجهته بعدما خرجنا لعلها تكون هي ذات الوجهة التي أقصدها، أخبرني هو أنه ذاهب إلى محطة مصر، تعلقت ثانية بيده وأخبرته أنه نفس طريقي فأنا ذاهب إلى ميدان رمسيس.
إبتسم وقال بلهجة أهل الصعيد: -زين يا أفندي أهو أكسب فيك صواب و أوصلك بدل ما إنت عمال تخبط في خلق الله.
ضحكت وضحك هو كثيرًا، و لم أعرف ماذ أقول، ثم جذبني من يدي لنستكمل المسير؛ قطعنا خان الخليلي ثم سرنا بٱتجاه سيارات الأجرة المتراصة مقابل المسجد الأزهر، و ٱستقلينا سيارة متجهة إلى ميدان رمسيس، شقت السيارة طريقها بسهولة على غير عادة السير في القاهرة، ولكن في مثل هذا الوقت تسير كل الأمور بهدوء و يسر.
جذب هو طرف الحديث وسألني: إنت منين يا أفندي؟
- من هنا
قال ضاحكًا: وأنا من هناك عندينا.
- وتطلع فين هناك عنديكم دي؟
- من الصعيد، محافظة المنيا.
- أهل الصعيد أحسن ناس.
- ربنا يكرمك يا أفندي، دا من أصلك.
توقفت السيارة، فهبطت منها وأمسكت بيده ثم أكملنا السير ٱتجاه المحطة.
سألته مازحًا: و كنت جاي من الصعيد علشان تصلي الفجر في سيدنا الحسين؟
أجاب بخفة ظله المعتادة: لا، جاي علشان أوصلك رمسيس.
ضحكت هذه المرة كثيرًا، و ٱستكملنا السير نحو المحطة ونحن نتضاحك، ثم سألته جادًا: قولي بجد إنت كنت بتعمل إيه في القاهرة؟
تغيرت قسمات وجهه قليلًا، و ٱكتست بمسحة حزن ممتزجة بجدية، ثم أجاب بحسم كأنه يريد أن يقطع دابر هذا السؤال: بشتغل هنا يا أفندي.
ثم صمت بعدها، و صمتُّ أنا أيضًا، شعرت أنني قد تجاوزت حدود الكلام المتاحة بيننا، بالرغم من أنه يبدو سؤالًا عاديا، ولكن بالمنطق ماذا يمكن أن يعمل كفيف في هذه المدينة الموحشة، التي لا تترك مجالًا للأصحاء أن يستريحوا من عناء الشقاء فيها؟! فهيئته الرثة ويده التي لا تحمل إلا عصا، تجعل المرأ يظن أن
عمل واحد يناسبه، ويشتغل به الآلاف هنا ممن هم على نفس حاله، وربما يكونوا أصح مني، و لكن تلك هي الحياة في القاهرة، آلاف الشحاذين يعملون هنا، و الآلاف أيضًا يمنون عليهم ببعض المال، و ملايين أخرى تتعفف فتظل تدور في دوامة الحياة هنا و تصارع من أجل البقاء، فلا هي تأخذ و لا هي تُعطي، و أظن أن صاحبنا هذا ألّح عليه الطبع الصعيدي، و تناسى حاجته حتى أنه رفض أن أدفع له أجرة السيارة، وربما شعر أنني صديق أراد أن يتحرر معه من قيد الحاجة وأسرها، كان هذا كل ما دار برأسي، ولم أقطع بأنه كذلك ولكنني فقط توقعت.


ظللنا صامتين طوال هذه المدة حتى أن غدونا على الرصيف المقابل للمحطة، قطعت الصمت وقلت له: إيه يا عم حارمنا من ضحكتك ليه؟
إبتسم وكأنه يريد أن يخفي ما بدى على وجهه ثم قال: معنديش غيرها يا أفندي أتقوت بيها ع الدنيا، يعني من غير الضحكة هعرف أعيش؟!
أدركت عمق كلماته و قلت له: هو من غير ضحكتك دي إحنا اللي نعرف نعيش، صحيح أنا لسه معرفتش ٱسمك.
- إنت لس فاكر يا أفندي؟ دا احنا قربنا نوصل الصعيد، و مع ذلك ٱسمي حسين.
- عاشت الأسامي يا حسين، و أنا ٱسمي محمد.
- على ٱسم النبي صلى الله عليه و سلم، عاشت الأسامي يا أستاذ محمد.
- عليه أفضل الصلاة و السلام، تسلم يا حسين.
دخلنا إلى أروقة المحطة، وسط تدافع المسافرين وسعيهم الدؤوب نحو الرصيف.
قال هو منبهًا: رصيف 11 قطر الساعة خمسة إلا تلت.

قلت له مطمئنًا: الساعة لسه أربعة و نص، باقي عشر دقايق.
وإذا به يقول لي: أوعى تكون فاكرني بشحت يا أفندي علشان أتفسح، أنا بصرف على أبويا المشلول وأختي الصغيرة اللي لسه في إعدادية ومرات أبويا، لولاش الظروف بس يا أستاذ محمد كنت بقيت أحسن من البرادعي اللي بيطلع في التلفزيون دا بتاع الثورة.
- إنت متابع السياسة.
- أمال يا أفندي أنا فرحت قوي بالثورة في أولها، كنت فاكر إني هعيش من غير ما أمد إيدي، بس مفيش جديد يا أفندي الحال هوا الحال، واديني أهو متشحطط في القطرات، أجي مصر أول الأسبوع وأرجع في آخره.
- بكره الحال يتصلح يا حسين بس إنت ادعي و الشعب خلاص فاق وبكره يجيلك حقك.
- يارب يا أفندي، احنا مش عايزين غير الستر.
وصلنا إلى رصيف 11 ثم أجلسته على أحد كراسي المحطة في ٱنتظار القطار، وبمجرد أن جلس، قال لي: خدمة أخيره يا أفندي.
- عنيا ليك يا حسين.
- خد يا أفندي عدلي الفلوس دي.
أخذتها منه ثم شرعت بعدها، عملات ورقية كثيرة ومعدنية أكثر من مختلف الفئات أتممت العد، مائتين وثلاثة عشر جنيه بالتمام والكمال، ثم أخرجت عشرة جنيهات من جيبي لأضعها بين النقود، ففوجئت أن حسين يتابعني بأذنه، وأنا أتمتم بالعد، وبمجرد أن انتهيت.
قال لي: خلاص كدا يا أفندي متطلعش فلوس من جيبك، إحنا أصحاب، عيب.
صمت و دهشت من قوة ملاحظته ثم أعطيته النقود وأخبرته قدرهم.
دوى صوت القطار بالمحطة ليعلن للمسافرين عن أن وقت الرحيل عن القاهرة قد حان، يمد حسين يده إلي لينهض ويقول لي بلهجة لا تخلو من عاطفة و كرم: لازم تيجي تنورنا في الصعيد يا أفندي، أنا بعزمك أهو وهستناك، و العنوان ميتوهش، تنزل المحطة وتركب سرفيس الحبشي وتنزل آخر الخط واسأل عن بيت الحج محمود سليمان، تيجي في أي يوم جمعة هتلاقيني مستنيك.
قلت له ممتنًا: بإذن الله يا حسين هاجي أزورك في يوم.
قال لي وعلامات رضا على وجهه تدل على أنه كان جادا حقًا فيما قال: خلاص يا أفندي وعد الحر دين عليه.
ٱحتضنته وكأنه صديق لي أعرفه منذ زمن وبادلني هو العناق ثم أخذته وذهبت به إلى أحد المسافرين وعهدت له بأن يصطحبه معه في القطار إلى أن يهبط محطة المنيا، فقبل الرجل بترحاب وظللت واقفا على الرصيف إلى أن هم القطار بالتحرك، فما كان من حسين إلا أن أخرج رأسه من شباك القطار وهتف: "وعد الحر دين عليه يا أفندي"، ثم ٱبتعد القطار وٱبتعد معه حسين، وعاد القطار ولم يعد حسين.
ٱنطلقت إلى يومي ولساني يردد من دون وعي مني "سيرفيس الحبشي آخر الخط بيت عم محمود سليمان"، أردت أن أحفظ العنوان، حتى أفي بوعدي له بزيارته، وها أنا قد جئت لأفي بالعهد، ولكنه القدر كان أسرع مني و أسرع من أن يتداركه بشر، هذا هو حسين المبتسم دائما مستلقٍ أمامي على الرصيف البارد لا حول له ولا قوة، مات قبل أن تتحقق أمنيته بألا يمد يده إلى غريب أو قريب، فهكذا هو الحال في بلادنا يعيش ويموت فيها الكثيرون دون أن تتحقق أسمى أمانيهم وهي "الستر" !!
قمت من مكاني و ذهبت إلى ضابط الشرطة وأخبرته أنني أعرف صاحب الجثمان، و أعرف بيته، فهو صديقي، قال لي الضابط بأسى: البقية في حياتك.
- حياتك الباقية.
- طيب كدا هنحتاجك معانا في إنهاء إجراءات الدفن.
- أنا معاكم يا أفندم لحد ما نوصل حسين لأهله.
ربت الضابط على كتفي و قال: شد حيلك و أهي عربية الإسعاف وصلت
ركبنا سيارة الإسعاف لتبدأ رحلتنا إلى الحبشي حيث دعاني حسين لبيته.


تمت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبدالحليم حفينة
1/10/2012

الثلاثاء، 14 أغسطس 2012

حزب الدستور.. (ليه؟!)


جرت العادة في بلادنا أنه إذا عرضت على أحدًا أمرًا ما، أن يسألك بمناسبة أو بغير مناسبة "ليه؟!" وإذا تعلق هذا الأمر بالسياسة فحتمًا أن يسبق "ليه" بكلمة اعتراضية لا مجال لذكرها هنا، فالسياسة هي البعبع الذي طالما ألصقت شوارب إلى حيطان الشوارع إتقائًا لشرها وهمها، ولكن الأمور قد تغيرت والأحوال تبدلت، وأصبح من لا يمتلك شاربًا أصلًا يتراقص في الشوارع وهو يسب الرئيس - أرفع منصب في الدولة-، وإختفت الكلمة الاعتراضية، وبقيت "ليه"، فعندما نسمع اليوم عن تأسيس حزب جديد اسمه "الدستور" تحت قيادة الدكتور البرادعي، فطبيعي أن تسمع 90 مليون في نفس واحد يقولون "ليه هوا احنا ناقصين أحزاب؟!" الحقيقة وبعيدًا عن المصطلحات السياسية المعقدة، "احنا فعلًا معندناش أحزب" سيرد هنا ال90 مليون في نفس واحد أيضًا "إنت هتشتغلنا، أمال ايه كل الأحزاب دي؟!!" عزيزي المواطن نحن لا نمتلك فعلًا أحزاب حقيقية تربي كوادر سياسية شابة لتحررنا من عصور العواجيز التي أنهكت البلاد وأوردتها موارد الهلاك، أحزابنا الموجودة اليوم لا نراها إلا في أوقات الإنتخابات، فلم نرى الأحزاب الكبيرة تجوب الشوارع والمناطق الفقيرة بقوافل طبية، لم نرى دورات التثقيف السياسي لشباب القرى والنجوع والمناطق الشعبية والعشوائية، وتستطيع أن تعدد ما تشاء من الأنشطة المفترض أن تدعمها وتقدمها الأحزاب، وستجد أن أيًا منها لا يُمارس على الأرض، بالبلدي أستطيع أن أقول أن أحزابنا هي "أحزاب مواسم" لا تراها في الشارع إلا في مواسم الانتخابات أم غير ذلك، فعذرًا عزيزي المواطن لا حاجة لهم بك، والواقع يقول أنك في حاجة إلى البديل.


أعلم أن هناك من يسأل متهكمًا، ويقول هل حزب الدستور هذا هو الذي سيختلف عن كل هذه الأحزاب؟! سأجيبك هنا بأن أحكي لك تجربتي الشخصية مع الحزب، ففي مدينتي "قلين" بمحافظة كفرالشيخ، وهي مدينة صغيرة لم تشهد أي نشاطات سياسية حقيقية وفاعلة، أستطيع أن أقول أنها من المدن "الريفية" المعزولة سياسيًا، ومع ذلك تجمع أكثر من ثلاثين شابًا، ممن يؤمنوا بأفكار الحزب وتتلخص في تحقيق أهداف الثورة، تجمع أولئك الشباب واستطاعوا بجهودهم الذاتية أن يوفروا مقر ويقدموا أفكار قابلة للتنفيذ على الأرض ويشكلوا لجان، كل هذا في أقل من إسبوع، وهذا ما يجعلني على يقين بأن هذا الشباب الذي يضحي بوقته وماله وجهده من أجل فكرة يؤمن بها، يستطيع بإذن الله أن يصنع الاختلاف، ويستطيع أن يخلق كيان سياسي جديد بأفكار جديدة وبأليات تنفيذ على الأرض مبتكرة.

وبالإضافة إلى ذلك، فهناك أيضًا التنوع الفكري الذي أبهرني سواء على مستوى التجمعات الصغيرة، أو على مستوى القيادات والمؤسسين، فعندما ترى الدكتور محمد يسري سلامة السلفي والمتحدث الرسمي السابق بإسم حزب النور، يجلس على مائدة واحدة إلى جوار جميلة إسماعيل ليبرالية الفكر وإلى جوارهم البطل أحمد حرارة –وكأن الثورة قد إجتمعت على مائدة واحدة-، وهذا يجعلني على يقين أن هؤلاء تجردوا من مصالحهم الشخصية ليجتمعوا على بناء وطن وتحقيق أهداف الثورة، فحزب الدستور بتكوينه المعتمد بالأساس على الشباب النقي الذي لا يعنيه سوى مصلحة الوطن، سيملأ حتمًا الفراغ الذي تركته الأحزاب الأخرى.

وتقديرًا مني لإيمانك بنظرية المؤامرة، سأرد على بعض ما يراودك الآن بأن كل ما أقوله هذا هو من قبيل "الهري والرغي" والكلام الذي سمعناه كثيرًا ولا نرى منه شئ على أرض الواقع، أقدر وجهة نظرك، ولكني أختلف معها، فمنذ متى يا صديقي ونحن نرى شبابًا يقومون بإنشاء حزب بمجهوداتهم الذاتية -قبل أن يُعلن تأسيسه-؟!، منذ متى ونحن نرى هذا الكم من الشباب أصلًا يعمل بهذه الروح في عمل جماعي واحد؟! هنا أتذكر رأي الدكتور البرادعي في الشباب الذي وصف قوتهم بالسيل إذا اجتمعوا على هدف، وكما جمعت الجمعية الوطنية للتغيير في الماضي الشباب لتحقيق حلم الثورة، اليوم يجمعهم حزب الدستور في كيان واحد ليبدأوا التغيير على الأرض.

في النهاية أدعوك أن تذهب بنفسك إلى تجمعات حزب الدستور في أقرب منطقة لسكنك، وتجلس بين تجمعات الشباب وتسمع منهم وتسألهم عن أحلامهم وأحلامك التي أثق بأنها مشتركة بينكم، فما أحوجنا جميعًا أن نحلم بوطنِ عزيز يصون كرامتنا ونصونه بأنفسنا ونبنيه بسواعدنا.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبدالحليم حفينة
13/8/2012



الثلاثاء، 17 يوليو 2012

أبو إسماعيل والمراهقة الساسية


لم أجد وصفًا دقيقًا يتوافق مع أراء ومواقف حازم أبو إسماعيل غير أنها مجرد مراهقة سياسية غير مسئولة، فالرجل منذ بذغ نجمه بعد تنحي مبارك فرض نفسه من خلال بعض الفضائيات على أنه قائد شعبي ومحلل سياسي عظيم!! مع أن عمره في ممارسة السياسة والمعارضة الموثقة والصريحة لنظام الحكم المباركي لم يتعدى بضعة أيام شارك خلالها في وقائع الثورة كغيره من الملايين الثائرة، فلم نرى مثلًا الشيخ حازم منظمًا أو مشاركًا في الفاعليات الثورية قبل الثورة، فلم نره واقفًا بجوار الراحل العظيم المفكر الإسلامي الدكتور عبدالوهاب المسيري وقت أن كان يسحله رجال الأمن في وقفات حركة كفاية، لم نره يدافع عن النشطاء السياسين من حركة "6 إبريل" و"كفاية" الذين كانوا في سجون مبارك (بما أنه محامي)، هبط فجأة الشيخ حازم من السماء ليقول لنا أنه هو المخلص وهو مفجر الثورة!! وكأننا جميعًا معاتيه لم نتابع ونعرف ونقدر أصحاب المواقف الحقيقية وأدعياء الثورية والبطولة.

أين أبو إسماعيل من الجمعية الوطنية للتغيير التي حملت حلم الثورة والتغيير وطافت به أنحاء مصر والعالم؟!! (طبعًا كان جالسًا في الغرف المكيفة والأحرار يهانوا ويعتقلوا من أجل مصر)، أين كان عندما شوه النظام البرادعي وطعنوا في وطنيته وخاضوا في عرضه بل وساعد النظام في ذلك بعض الإسلاميين؟!!

أبو إسماعيل الذي خرج في برنامج توك شو يهدد المشير وسامي عنان ويمهلهم 48 ساعة ليرحلوا من البلد وإلا .... !!! لا شئ ينسحب الشيخ حازم من الإعتصام!! الشيخ حازم الذي هدد أعضاء اللجنة العليا للانتختابات بفضحهم وإخراج ملفات الفساد التي تتعلق بهم إذا إستبعدوه، (لكن إذا لم يُستبعد فالمسامح كريم طبعًا) وفي النهاية لم يُخرج أبو إسماعيل أيًا من تلك الملفات!! وهنا نقول إما أن الشيخ حازم متستر عليهم في حالة صحة ما يقول، أو أنه كاذب ومدعي - إذا كان ما يقوله إدعائًا - ، وفي الحالتين لا أحترمه.

أبو إسماعيل الذي يتحدث ليلًا نهارًا عن معاداته لأمريكا، ورعب إدارتها من فوزه إذا قدر الله - وقت أن كان مرشح -، يخرج أبو إسماعيل مع كل تلك الثورية والمعاداة الواضحة للأمريكان وللغرب "الكافر" ليقول في أحد لقائته الجماهرية أنه مستعد للتفاهم مع أمريكا والتماشي معها كدولة عظمى، وعدم المساس بمصالحها (وأهم المصالح آمن إسرائيل)، ولكن كل ما يريده الشيخ حازم أن يكون هناك ثمن!!

ويكلل الشيخ حازم مراهقته السياسية وكلامه العبثي المعدوم القيمة، بمهاجمة صريحة للبرادعي، فيقول أن البرادعي صاحب أسوأ موقف منذ بداية الثورة!!
- بصراحة قالها والحقد يتطاير من عينيه – عمومًا البرادعي ليس في حاجة إلى أن أثبت صحة مواقفه ونزاهته وثوريته، وحازم أبو إسماعيل أيضًا ليس في حاجة أن أوضح سذاجته وسطحيته، فمواقف كليهما موثقة ومعلومة للجميع، ولكن وجب عليا أن أنوه على أن في الوقت الذي يُهاجم فيه البرادعي، لم يرد هو على أحد، وبترفعه المعتاد يزيدنا البرادعي ثقة فيه وإحترامًا وتقديرًا له، فعفوًا يا دكتور برادعي فهناك أقزام كثيرة يأكل الحقد قلوبها فتتطاول عليك بما ليس فيك!


ــــــــــــــــــــــ
عبدالحليم حفينة
15/7/2012



الأحد، 15 يوليو 2012

أحمد الجيزاوي "قضية وطن"


"آفة حارتنا النسيان" تلك العبارة العبقرية التي أطلقها يومًا أحد عظام هذا الوطن (الراحل نجيب محفوظ) لتنطبق علينا دائمًا وأبدًا، واليوم أستميح روحه الخالدة في وجداننا عذرًا، لأدخل على هذه العبارة إضافة ليتم التطابق مع واقع قضيتنا فأقول "آفة حارتنا التدليس والكذب ثم النسيان" فقد إعتدنا أن نصدق الكذب والتدليس لتظل ضمائرنا مستكينة، فلا تعبث بها جراح الوطن النازفة، فكم نسينا أو بالأحرى تناسينا من قضايا أوطاننا! متعللين بالأكاذيب والأباطيل التي يروج لها إعلام الأنظمة القمعية وأجهزته الأمنية.

وتظل قضية أحمد الجيزاوي شاهدًا على كذبٍ إعلامي وتدليسٍ حكومي وتصديقٍ شعبي، وأحمد الجيزاوي لمن لا يعرفه، هو مواطن مصري يشتغل بالمحاماة، وقد حمل على عاتقه قضية الدفاع عن المصريين الذين يتم إعتقالهم تعسفيًا في السعودية، - وهنا أقدر جهد الجيزاوي وأشعر به، فلي صديق ظل رهن الإعتقال التعسفي في السعودية ما يزيد عن خمسة أشهر بدون تحقيق أو محاكمة - وقد تطوع أحمد الجيزاوي للدفاع عن حقوق هؤلاء المصريين الذين ُتسلب حريتهم وكرامتهم بمنتهى البجاحة، فقام الجيزاوي برفع قضية في محكمة جنوب القاهرة إختصم فيها ملك السعودية، وظهر على أحد الفضائيات ليوجه نقد لازع وعنيف للملك، وكان هذا كله سببًا في إعتقاله عند زيارته السعودية للاعتمار بصحبة زوجته، وكعادة الأنظمة القمعية لابد من توجيه إتهام وتلفيق جريمة حتى تمتص غضب الرأي العام، وحتى يجد المتقاعسون عن نصرة المظلوم سببًا يعللون به تخاذلهم، فلفقوا للجيزاوي قضية مخدرات على طريقة جهاز الأمن القمعي المصري، الذي اعتاد على تعليب الإتهامات، والإلقاء بها في وجه كل من يعارضه للخلاص منه والزج به في غياهب السجون وربما قتله في بعض الأحيان.

وما حدث من تصعيد شعبي في مصر ضد ديكتاتور الجزيرة العربية، كان صفعة قوية على وجه هذا الأبله الذي لو كان في هذه الأوطان العربية ثمة عدل ما استحق أن يكون خفيرًا على أصغر قرية مصرية، فهذا شأنه ومقامه إن ُأقيم العدل الذي يرتعد منه ويخشاه.
ولكن سرعان ما ضعف صوت الحرية والكرامة، وتعالى بواسين الأيادي والنعال بأصواتهم البغيضة، ليقدموا الاعتذارت لديكتاتور الجزيرة، فترأس الكتاتني رئيس مجلس الشعب وفدًا شعبيًا تكفل بدفع فاتورته سيد البدوي رئيس حزب الوفد ومشتري جريدة الدستور التي أثخنت جراح نظام مبارك طويلًا، ولكن المعارض الهمام أبى ألا تزيد الجريدة المعارضة النظام ألمًا فقام بشرائها، وتحولت إلى جريدة ناطقة بإسم الحزب الوطني المنحل، هذا تاريخ من تكفل بدفع فاتورة سفر الوفد الشعبي إلى السعودية لتقبيل نعال حكامها، وبعد ذلك بقليل تتداول وسائل الإعلام السعودية خطابًا من الجيزاوي يعتذر فيه إلى ملك السعودية، ثم يكذب الجيزاوي كل هذه الإدعائات في مكاملة تليفونية مع زوجته، ومن بعدها تنقطع أخبار الجيزاوي، ويبقى السؤال ماذا قدم الوفد الذي ترأسه الكتاتني للجيزاوي ولكافة المعتقلين المصريين؟!! لم يقدم الوفد إلا مزيدًا من الانحنائات لديكتاتور الجزيرة ومزيدًا من تقبيل النعال، لم يقدم لنا إلا الذل والعار والمهانة.

ويبقى أيضًا التساؤال الأكبر والأخطر، ماذا قدم الرئيس مرسي الذي ذهب للسعودية ليؤكد على حماية السعودية ومصر للإسلام الوسطي السني، وتناسى كرامة المصريين المهدرة على أرض سيد الخلق، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
القضية ليست في شخص الجيزاوي، فهناك مئات مثله وفي نفس معاناته، والكل يعرف ويرى ويسمع، القضية هي قضية وطن ينزف، وطن ُتهدر كرامته، وأنا على يقين أن بمصر أحرار سيظلوا في ثورة دائمة ضد الظلم والجبروت، ثورة لن تنتهي إلا بعودة كرامة الوطن وصونها.

الحرية للجيزاوي والذل والعار لكل ديكتاتور جائر.

ــــــــــــــــــــــ
عبدالحليم حفينة
15/7/2012


الثلاثاء، 12 يونيو 2012

الحشاشون.. فرقة ثورية في تاريخ الإسلام

 
مُنذ فجر التاريخ تزدهر الحضارات وتضمحل الأخرى منها، وكضرورة إنسانية مُلحة بدأت تلك الحضارات الإحتكاك ببعضها البعض سياسياً وإقتصادياً وثقافياً، ومن هنا بدأت تظهر في أفق التاريخ تحالفات حضارية ساعدت على تقدم البشرية وثرائها الحضاري، وفي أفاق آخرى تظهر الصراعات الحضارية التي أنهكت البشرية وأورثتها نزاعات مريرة، ومن هنا يأتي استعراضنا لظاهرة المستشرقين التي أحدثت التقارب الحضاري في أحيان، وساعدت على تأجيج نير الصراع الحضاري في الحين الآخر، وصاحب كتابنا هو المستشرق البريطاني الأصل الأمريكي الجنسية اليهودي الديانة برنارد لويس، وقبل أن نُكمل تعريفنا بالمؤلف، دعونا نعرف معنى كلمة مستشرق؛ فقد تم تعريف كلمة مستشرق على أنه العالم المُلم بمعارف الشرق وحضاراته ولغاته وآدابه، وكان أول ظهور لكلمة مستشرق في اللغة الإنجليزية عام 1779، ويذكر أن الفرنسي د. جيرار دي أورلياك هو أول من إستشرق، وبالعودة إلى كاتبنا المستشرق برنارد لويس نجد أنه ولد لأسرة يهودية من الطبقة المتوسطة وشغُف منذ صغره بدراسة اللغات، وكان أول ما درس اللغة العبرية، ثم اللغة العربية والاتينية والتركية واليونانية وغيرها من اللغات الشرقية، وقد تخصص برنارد لويس في التاريخ الإسلامي، وإشتهر بأرائه السلبية من الاسلام والعرب، وقد عُين مستشاراً لوزير الدفاع ديك تشيني في عهد جورج بوش الابن، ويتضح لنا أن المستشرق برنارد لويس تعمد تسليط الضوء على الفرق الضالة في الإسلام لإظهار بعض السلبيات في التاريخ الإسلامي، وهذا لا يعفينا مطلقاً من قراءة الكتاب الذي يتضمن معلومات قيمة عن فرقة ضالة وجدت في التاريخ الإسلامي تُسمى بالحشاشين، وسوف أقوم بإستعراض الكتاب بصورة مبسطة تجمع المعلومات التاريخية المهمة في الكتاب علّ القارئ يستفيد بها، دون أن ينفق وقتًا طويلًا في قراءة الكتاب، وسأبدأ بإستعراض الكاتب لما ُعرف في الكتابات والموروثات التاريخية الغربية عن تاريخ الحشاشين وأصلهم.


إكتشاف الحشاشين
إستعرض الكاتب في بداية معرفة الغرب للحشاشين, وكانت تلك البداية عن طريق الحملات الصليبية التي غزت الشرق, وخاصة بلاد الشام التي كانت مركزاً مهما للحشاشين، ويذكر أنه عندما استعد فيليب السادس ملك فرنسا لغزو الشرق، أرسل له قس ألماني يدعى بروكاردوس، يحذره فيها من مخاطر الشرق وعلى رأسها الحشاشين، حيث قال "أذكر الحشاشين الذي ينبغي أن يلعنهم الإنسان ويتفاداهم، إنهم يبيعون أنفسهم، ويتعطشون للدماء البشرية ويقتلون الأبرياء مقبل أجر، ولا يلقون إعتبارًا للحياة أو النجاة"
ثم يتابع الكاتب معرفة الغرب بالحشاشين، ويذكر أن كلمة حشاش دخلت في الإستخدام الأوربي بأشكال مختلفة، وتعني القاتل المأجور"assassin" ويذكر الكاتب أيضًا رواية جائت على لسان أحد مبعوثين الأمبراطور فريدريك بربروسة إلى سوريا، حيث جاء في روايته تلك أن هناك عند تخوم دمشق وأنطاكية وحلب يوجد جنس معين من العرب يعيشون في الجبال يسموا بالحشاشين، ولهم سيد يلقي الرعب في قلوب الأمراء العرب القريبين منه والبعيدين عنه على السواء، حيث كان له أتباع يطيعونه طاعة عمياء، حتى إذا أمرهم أن يُلقوا بأنفسهم من فوق الجبل فعلوا، وكان يأمرهم بقتل من يشاء من الأمراء والملوك، وكان يطلق على هذا السيد أيضًا لقب "شيخ الجبل"، ويقول تأثرًا بهم أحد شعراء التروبادور (هم شعراء رحالة عُرفوا في القرن الحادي عشر، وكانوا ينتقلون من قصر إلى قصر جنوب فرنسا ليلقوا الشعر) لحبيبته " أنت تسيطرين عليّ بسحرك أكثر مما يسيطر الشيخ على حشاشيه الذين يذهبون لقتل أعدائه الفانين".
ويتابع الكاتب وصف "أسطورة الفردوس" التي ذكرها الرحالة ماركو بولو، الذ مر عبر إيران عام 1273، ووصف قلعة "ألموت"، التي كان سيدها شيخ الجبل الذي أغلق وادي بين جبلين، وحوله إلى حديقة فيحاء، وملأها بأنواع الفاكهة، وأقام فيها قصورًا ومقصورات، وجعل فيها أنهارًا تفيض بالخمر والعسل واللبن والماء، وكان يفتن أتباعه بهذه الحديقة ويوهمهم بأنها جنة الفردوس، ومن سيُقتل في سبيل تحقيق أهدافه سيرسل إليه ملائكته ليعيده إلى هذه الجنة!!

دراسات مبكرة


في هذا الجزء يقدم الكاتب بعض الدراسات الغربية التي إهتمت بدراسة الحشاشين، وكان صاحب أول دراسة عنهم هو دنيس بيتي دي باتيلي عام 1603، وكانت محاولة دراسة ضعيفة، وجائت الدراسة الثانية لكشف لغز الحشاشين على يد بارتولمي دي هيربلوت، وهذه الدراسة هي عمله الرائع المسمى بالمكتبة الشرقية، ومن أهم الدرسات التي تناولت تاريخ الحشاشين، هي "تاريخ الحشاشين" التي قام عليها الكاتب النمسوي جوزيف فون هومر، وكان ينظر في دراسته للحشاشين على إنهم "اتحادًا من الدجالين والمغفلين استطاعوا تحت قناع التشدد الديني والأخلاقي الإساءة إلى كل الأديان والخلقيات، وأن هذه الجماعة من السافكين الذين سقط تحت نصال خناجرهم أسياد الدول ظلوا أقوياء لأنهم ولمدة ثلاثة قرون استطاعوا أن يبثوا الرعب في قلوب الجميع إلى أن سقط وكر الوحوش في يد الخلافة التي كانت منذ البداية هدفًا للتدمير بأيديهم كرمز للسلطة الروحية والزمنية للمسلمين.

أتباع أغاخان

يروي الكاتب في هذا الجزء زيارة القنصل الفرنسي روسو في عام 1811 برحلة من حلب إلى إيران بحثًا عن وجود الإسماعليين، ودُهش حين علم حينها أن هناك أناس في إيران لهم ولاء لإمام من نسل إسماعيل، وإسمه شاه خليل ويقيم في قرية "كيك" بالقرب من مدينة "قم"، ويوجد أيضًا أتباع لهذه الطائفة في الهند يسموا بطائفة الخوجا، وقد قُتل هذا الإمام وتولى ابنه أغاخان الإمامه خلفًا له، وقد قام أغاخان بثورة فاشلة على شاه إيران، خرج على إثرها إلى الهند، وإستقر بها، وقام بعض أعضاء طائفته في مومباي بالخروج عليه ورفض تقديم الطاعة له، إلا أن محكمة مومباي حكمت بعد بحث طويل وثري في تاريخ الحشاشين بأن طائفة الخوجا جزء لا يتجزأ عن الطائفة في سائر أنحاء الهند، ووجب عليهم تقديم الطاعة إلى أغاخان.

تاريخ الحشاشين بالتفصيل

بعد أن إستعرض الكاتب بداية معرفة الحشاشين في المصادر الغربية ينتقل إلى شرح تاريخ الحشاشين شرحًا دقيقًا ومفصلاً، فيبدأ بنشأة الشيعة، وذلك بعد رفض طائفة من المسلمين ولاية معاوية ومطالبتهم ألا تخرج الخلافة من بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسهب في شرح بعض النزاعات التي حدثت أثناء الفتنة، إلى أن وصل الكاتب إلى انقسام الشيعة إلى طائفتين هما الإسماعلية  والإثنى عشر، وقد حدث هذا الإنقسام عندما حرم الإمام السادس جعفر الصادق ابنه الأكبر إسماعيل من خلافة أبيه، وإعترف عدد كبير من الشيعة بأخيه الأصغر موسى الكاظم بإعتباره الإمام  السابع، وتتابع الأئمة فيما بعد إلى أن إختفى الأمام الثاني عشر، وهو الإمام المنتظر حتى الآن عند الشيعة الإثنى عشرية، وهم يمثلون أغلبية الشيعة.

وقد تبعت جماعة من الشيعة "إسماعيل" وإعترفت به كإمام، وأطُلق عليهم الإسماعيليين (الحشاشين)، وقد بدأ الإسماعليون نشاطهم في الخفاء، ويعتبر الإمام هو مركز النظام الإسماعيلي فهو معصوم وموحى إليه، وهو مطلع على الحقائق المخفية وأوامره تقتضي الطاعة التامة دون نقاش، وكان مسئول عن نشاط الفرقة ونشر دعوتها هيئة دعاة يرأسها الداعي الأكبر الذي هو المساعد المباشر للإمام.
وقد نشط النشاط الإسماعيلي في جنوب العراق واليمن وشوطئ الخليج العربي، إلا أنه لم يثمر هذا النشاط  إلا هناك في أقاصي العالم الإسلامي في شمال إفريقيا، وقد وصلوا هناك إلى درجة من القوة دعت الإمام المستور إلى الظهور، وأعلن نفسه خليفة في شمال إفريقيا، ولقب نفسه بالمهدي، وهكذا نشأت الدولة الفاطمية بدعوى أنها من نسل فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم.

بعد 60 عام من إقامة الخلافة الفاطمية في شمال إفريقيا، دخل الفاطميون مصر، وأقاموا المسجد الأزهر ليكون منارة لنشر المذهب الشيعي الإسماعيلي، وانتقل الخليفة المعز لدين الله الفاطمي إلى القاهرة حتى أنه نقل رفات أبائه وأجداده معه، وبعد عقود من ازدهار الدولة الفاطمية بدأت الدولة تنهار، خصوصًا بعدما أصبحت السلطة الفعلية في يد أمير الجيوش بداية من الأفضل بدر الدين الجمالي الذي زوج ابنته لابن الخليفة المستنصر الأصغر المستعلي، وبمجرد وفاة الخليفة الثامن الذي كان خليفته ووريثه الشرعي ابنه نزار، قام الأفضل بإعلان المستعلي زوج ابنته الخليفة، وعلى غرار ذلك فر نزار إلى الأسكندرية، وهبت ثورة محلية سرعان ما أُخمدت، وقُتل نزار و،أعلن الشيعة الشرقيون رفضهم الاعتراف بالخليفة الجديد، وأعلنوا ولائهم لنزار وخطه، وبدأت الدولة الفاطمية القائمة على نظام الخلافة بالتمزق والإنهيار، خصوصًا بعد إنقسام المذهب الإسماعيلي، وإنقسام الولاء بين إمامين هما المستعلي ونزار، وكان ذلك من أسباب نهاية الدول الفاطمية وإعلان الدولة الأيوبية، وإنتهت بذلك دولة الشيعة الإسماعيلية، وبدأت بعد ذلك الدعوة الجديدة التي قادها الثوري حسن الصباح.

حسن الصباح والدعوة الجديدة

بعد انهيار الدولة الفاطمية، احتاج المذهب الإسماعيلي لمن يجدد الدعوة له، وينشر الفكر الإسماعيلي، وقد قام حسن الصباح الذي ولد بمدينة "قم" بإيران بهذا الدور على أكمل وجه، وظل يجوب البلاد للدعوة للمذهب الإسماعيلي الذي لم يكن مقتنع به بادئ الأمر، حيث أنه ولد على المذهب الإثنى عشري، إلى أن التقى بأحد الرفاق (وهو تعبير يطلقه الإسماعيليون على أنفسهم)، ودعاه هذا الرفيق إلى المذهب الإسماعيلي، ثم أبحر هو في العلوم إلى أن ذهب إلى مصر وتعلم على يد دعاة كبار إبان حكم الدولة الفاطمية، وأصبح من كبار الدعاة، وقد ركز حسن الصباح دعوته في إقليم الديلم أقاصى شمال فارس، وقد وجد إستجابة كبيرة هناك، حيث إستقر في قلعة "ألموت" التي كانت في مكان حصين، ويُقال أنه لم يخرج منها حتى مماته، وكانت تستخدم هذه القلعة في عمليات الإغتيال السياسي، حيث كانت هناك قائمة شرف يوضع فيها كل من ينفذ أمر بالإغتيال، وكان معظمهم يلقى حتفه، وبعد أحداث عنف كثيرة، حدثت غارات عسكرية على ألموت وبعض القلاع التابعة للإسماعيليين، ولكن تم صدها جميعًا، وظل حسن الصباح يرسل دعاته في بلاد فارس ويستولي على القلاع والبلاد، وقد أرسل دعاته إلى سوريا حيث كان هناك أناس يدينون بالمذهب الإسماعيلي، فكانت المهمة ميسورة على دعاته، وقد كانت سوريا مغنم للإسماعليين حيث كانت طبيعتها الجبلية تناسب العمل السري للإسماعيليين (الحشاشين) من عمليات إغتيال وتخفي في الصحاري والجبال، بعكس العراق صاحبة الوديان النهرية التي لا تناسب العمل السري، وقد عمل الدعاة في سوريا بنفس إسلوب فارس، فإستولوا على القلاع، وكانت تلك القلاع مصدر رعب لكل الحكام الإمارات والممالك المجاورة، لما إشتهروا به بعمليات الاغتيال السياسي،  وكان يسمى سيدهم في سوريا باسم شيخ الجبل، أو "بير" بالفارسية التي تعني شيخ، والجدير بالذكر أن حسن الصباح ودعوته الجديدة كانت ولائها للإمام نزار، الذي سلب حقه أمير الجيوش الأفضل لصالح زوج ابنته المستعلي.

نهاية الحشاشين

بهجوم المغول على الشرق الإسلامي وصد السلطان بيبرس لهم، كانت نهاية قوة الحشاشين، فقد قطع بيبرس من أراضي الحشاشين إلى أحد كبار قواده، وبعد ذلك إستسلم الحشاشين تمامًا له في سوريا وأصبح هو من يعين قوادهم بدلًا من سيد ألموت، وبعد إستسلامهم هذا أصبحت خدماتهم الماهرة تحت تصرف بيبرس، حيث يذكر الرحالة المغربي ابن بطوطة "أنه عندما كان يريد السلطان بيبرس أن يرسل أحدهم لإغتيال أحد أعدائه يدفع له ثمن دمه، فإذا إستطاع القاتل أن يفلت أخذ هو النقود، وإن قُتل أو وقع في الأسر كان يعطي المال لأولاده".
وعلى الجانب الآخر قدم سيد ألموت في فارس الولاء للمغول تقية لدمارهم ووحشيتهم، وبذلك قد إنتهت أسطورة الحشاشين التي أرعبت حكام المسلمين والصليبيين على السواء، ولكن قد بقيت بعض أتباع الفرقة الإسماعيلية في إيران واليمن والهند، منهم من يطلق عليهم البهرة (المستعلية) المستقرون في اليمن والهند وهم أتباع الإمام المستعلي، ومنهم من يطلق عليهم الخوجا (النزارية) ويعيشون أيضًا في الهند وإيران، وهم أتباع الإمام نزار.

 أتمنى أن أكون قد قدمت لكم الكتاب في صورة مبسطة حوت زبد معلومات هذا الكتاب القيم الذي يسلط الضوء على طائفة ضالة وثورية في التاريخ الإسلامي.. هدانا الله وإياكم سبيل الرشاد.

ـــــــــــــــــــــــــــ

عبدالحليم حفينة
12/6/2012

الخميس، 7 يونيو 2012

حرية العقيدة في الإسلام




لا شك أن حرية العقيدة من الحريات التي كفلتها جميع مواثيق حقوق الإنسان، وقد كانت قضية حرية العقيدة مسار جدل كبير على الساحة الفكرية والسياسية بل والقضائية أيضًا في العقود المنصرمة، وقد تجلى هذا الموضوع بقوة في الفترة الحالية على إثر دخول البلاد مرحلة إعداد دستور جديد يكون بمثابة ميثاق يضبط إيقاع المجتمع ويحدد العلاقة بينه وبين أفراده، وقد أبدى بعض المنتمين للتيار المدني تخوفهم من التعدي على حرية العقيدة وتقييدها في الدستور الجديد، وذلك بسبب دعوات بعض قوى تيار الإسلام السياسي، التي ترى أن حرية العقيدة قاصرة على أن يتحول الإنسان من أي دين (غير الإسلام) إلى أي دين سماوي آخر أو إلى الإسلام، والمخالف لذلك يطبق عليه حد الردة، وإيمانًا بعدم حجر الإسلام على حرية العقيدة رأيت أن أوضح مدى حماية الإسلام لحرية العقيدة، وأن الإسلام قولًا وفعلًا قد حمى حرية الإعتقاد وحق الناس في الإختيار حماية لا جدال فيها، وذلك كله مُدعم بالقرآن الكريم والسيرة النبوية.

السيرة النبوية ترسخ مبدأ حرية العقيدة
أراد الرسول الكريم أن يقدم لنا بسيرته وسنته قدوة نقتدي بها ونستنها من بعده، وقد قدمت لنا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم قيم التسامح وقبول الآخر وعدم الحجر على أفكارهم أو معتقادتهم أو التفتيش في ضمائرهم ونواياهم، وقد قدمت لنا قصة "عبدالله بن أبي بن سلول" قيمة كبيرة ألا وهي حرية العقيدة، والتأكيد عليها وترسيخها، وكان عبدالله بن أبي بن سلول هذا سيد قبيلة الخزرج في المدينة المنورة، وقد إشتدت المنازعات بينه وبين قبيلة الأوس وقد توصل القبيلتين إلى حل يقضي بإنهاء تلك النزاعات وهو تنصيب عبدالله بن أبي بن سلول حاكمًا على المدينة، وقد تزامن هذا الحدث مع قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وتأسيس الدولة الإسلامية التي إتخذت من المدينة عاصمة لها، وتنصيب الرسول قائدًا وحاكمًا لها، وقد ألف الله بين قلوب المهاجرين والأنصار، وقد أحدث هذا الأمر حقدًا كبيرًا في قلب عبدالله بن أبي بن سلول، فقد نُزع الملك والسلطان، وكان يُظهر هذا الحقد حينًا ويُخفيه حينًا آخر، وظل يكيد للإسلام ويحاربه، وقد كان له ولد له نفس اسمه فكان يسمى "عبدالله بن عبدالله بن أبي بن سلول" وقد غضب ابنه لما يكيده للإسلام وذهب للرسول صلى الله عليه وسلم وقال:
"يا رسول الله قد علمت المدينة أنه لا يوجد أحد أبر من أبيه مني فإن تريد قتله فأمرني أنا فإني لا أصبر على قاتل أبي" فرفض الرسول، ولما سمع عمر رضي الله عنه بعضًا من مكائده، قال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه.. حتى لا يتحدث الناس بأن محمداً يقتل أصحابه)
وعندما توفي عبد الله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله فقال: يا رسول الله، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله: إنما خيرني الله فقال: "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ" {التوبة:80 } وسأزيده على السبعين، قال: إنه منافق.. فقام وصلى عليه رسول الله، فأنزل الله عز وجل هذه الآية:وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ {التوبة:84}

وتقدم هذه القصة نموذجًا رائعًا من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم عن التسامح وقبول الآخر، فكيف أن عبدالله بن أبي بن سلول كبير المنافقين ويتعامل معه الرسول بهذا التسامح ولم يهدر دمه، بل رفض أن يقتله أحد، وصلى عليه واستغفر له؟!!

وردًا على من يستشهدون بحرب الردة على وجود حد الردة في الإسلام، أقول لهم أن حرب الردة كانت حربًا سياسية بالدرجة الأولى لتوطيد أركان الدولة والحفاظ على الدعوة في مهدها من الضياع، بعد أن خرج عن الدولة ونظامها قبائل كثيرة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تكن حربًا لأن نفر من المسلمين تحول عن الإسلام في أقاصي الجزيرة العربية!!

القرآن الكريم يحمي حق حرية الاعتقاد ويُقصر عقاب الردة على الآخرة

لم يأمر الله عز وجل في كتابه الكريم بقتل المرتد في موضع واحد، أو حتى بأي عقاب دنيوي، وقصر العقاب على الآخرة فقط، فهو وحده صاحب حق الدخول في السرائر والإطلاع على إيمان البشر، وقد أمرنا تعالى بالدعوة إلى دينه بالحسنى دون إرهاب.. يقول تعالى "
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" {النحل:125}

ويقول تعالى أيضًا "
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا"
ونجد هنا أن الله لم يكره أحد على الإيمان بل ترك حرية الاختيار للبشر مع التوعد بالعقاب في الآخرة للكافرين، ولم يحدد عز وجل عقاب دنيوي.

ومن الآيات التي تحمي أيضًا حرية الاعتقاد يقول تعالى "
كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ "
وبعد ذلك كله قال سبحانه : " إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ " آل عمران/86-89

ومن تفسير بن كثير لهذه الآيات يقول " قال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع البصري ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ، [ ص: 71 ] ثم ندم ، فأرسل إلى قومه : أن سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل لي من توبة ؟ قال : فنزلت : ( كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ) إلى قوله : (  إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم)
ونجد في هذه الآيات كيف أن الله ترك باب التوبة إليه مفتوح، ولم يغلقه بحد الردة (القتل)!!

ثم نجد آية أخرى غاية في الإعجاز، يقول تعالى"ياأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم" ( 41 )  {
المائدة}
 
 وترى في هذه الآية كيف أن الله يخفف عن الرسول الكريم حزنه، ولم يأمره تعالى بقتل المنافقين، ولكنه توعدهم بالعذاب العظيم.

وفي نفس السياق نجد قوله تعالى "إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ( 137 ) بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ( 138 ) الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ( 139) {
المائدة}
ومن تفسير بن كثير لهذه الآية نجد قوله " قيل : هذا في قوم مرتدين آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ثم ارتدوا"


وبالاستناد إلى الآيات السابقة نجد أن القرآن الكريم كفل حرية الاعتقاد كاملة دون نقصان للبشر، ولم يعط لأحدٍ حق في مصادرة حرية البشر في معتقاداتهم، ولم يأمر في موضع واحد بقتل المرتد أو تنفيذ عقوبة دنيوية بحقه سواء بالجلد أو بغيرها، فقد ترك للبشر حرية الإيمان أو الكفر كاملة في الدنيا، وترك العقاب إلى يوم القيامة.

 وتأكيدًا
على حماية الإسلام لحرية العقيدة، فقد أصدر مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف فتوى عام 2002 بإلغاء ما يسمى "حد الردة" والاكتفاء بالإستتابة، ويعتبر الأزهر هو الجهة الوحيدة المخولة بإصدار الفتوى في مصر.
ومن هنا يؤكد لنا الإسلام دائمًا أنه دين حضاري وقد سبق الحضارات والأمم في بناء الدولة المدنية بمفهومها الواسع والشامل.. هدانا الله وإياكم سبيل الرشاد.

ــــــــــــــــــــــ
عبدالحليم حفينة
7/6/2012


الأحد، 20 مايو 2012

أبوالفتوح = البرادعي



كنت من أشد المعجبين بعقلية البرادعي وجرأته في الحق منذ أتى إلى أرض المحروسة، وعندما كان موجودًا في سباق الترشح للرئاسة، كنت أراه الأصلح كرئيس يقود مصر نحو دولة العدل، وكان انسحابه بالنسبة لي ولمؤيديه صدمة كان علينا تجاوزها والقبول بالأمر الواقع، ومن ثم كان لزامًا علينا اختيار مرشحًا ثوريًا آخر على قدر المسئولية، وكان جليًا أن أقوى المرشحين الثوريين في الشارع هما الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح والأستاذ حمدين صباحي، حينها إستحضرت صورة البرادعي في ذهني، هذا الرجل المتزن الهادئ الواقعي الذي يتحدث بمنطق يحترم عقولنا، بعيدًا عن الشعارات البراقة، ناهيك عن خبرته الإدارية وعمله على رأس منظمات دولية أثقلت خبرته الإدارية، فكان لإستحضار صورة الدكتور البرادعي في ذهني أثرًا بالغًا في مفاضلتي بين حمدين وأبوالفتوح، وقررت لا إراديًا أن أبوالفتوح هو الأقرب للبرادعي وأستطيع أن ألخص أسباب اختياري لأبوالفتوح في الآتي:
* خبرة الدكتور أبوالفتوح الإدارية الكبيرة، وذلك من خلال عمله على رأس إتحاد أطباء العرب وإدارته الناجحة لمنظمة الإغاثة التابعة لإتحاد أطباء العرب.

*الدكتور أبوالفتوح بوسطيته وعقليته المتفتحة سيكون حلقة وصل بين جميع التيارات بعد  حالة الإستقطاب التي طغت على المرحلة الانتقالية، فليس لمجتمع مفكك، يطعن كل طرف فيه في وطنية الطرف الآخر أن يحقق تقدم ورقي، وفي رأيي أن الدكتور أبوالفتوح هو المرشح الوحيد القادر على إنهاء حالة الإستقطاب الموجودة وتوحيد الصف لبناء مصر القوية، وأعتقد أن هذا التوحد يظهر في حملته الانتخابية وفي تعدد إتجاهات داعميه.

*أهم ما يميز برنامج الدكتور أبوالفتوح، انه قائم على فريق عمل يضم خبراء من جميع التيارات مما يضمن لنا أنه ليس برنامج إنشائي كغيره من البرامج الأخرى.

* غياب لغة الأنا في خطاب أبوالفتوح الذي يتميز بالمرونة والوقوف على مسافات متساوية من جميع التيارات ودون أن يستعدي تيار لحساب تيار آخر، ومع ذلك فهو واضح في ما يقدمه من رؤية وفكر.

*مواقف أبوالفتوح من الحريات العامة مطمئنة إلى حد كبير، فزيارته للعبقري الراحل نجيب محفوظ عام 2005 للإحتفال معه بعيد ميلاده بعد محاولة قتله على يد متطرفين إسلاميين، كانت تحديًا واضحًا للإرهاب الفكري من رجل محسوب على التيار الإسلامي، مع العلم أنه الوحيد من قيادات التيار الإسلامي الذي قام بمثل تلك الزيارة.

الخلاصة أنني أرى أن الدكتور أبوالفتوح هو الأقرب للدكتور البرادعي، من حيث الخبرة الإدارية، والمصداقية، والرؤية التي يتميز بها عن كثير من المرشحين الموجودين.. وفي حقيقة الأمر أني سأصوت للدكتور أبوالفتوح وأنا مرتاح الضمير تمامًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
عبدالحليم حفينة
20/5/2012

الخميس، 10 مايو 2012

مدينة قلين بين سحر الحاضر وعبق التاريخ



لا أخفي عليك سرًا يا صديقي، فنفسي تتوق إلى الهدوء والسكينة، والانشغال بوداعة نسمة الريف عن ضجيج المدن وصخبها، وليس هناك نسمة ريف أحب إلى قلبي من تلك النسمة التي أستنشق عبيرها في مدينتي الصغيرة فتعود الحياة إلى كياني من جديد وكأن روحي تسري في جسدي لتوها منذ خُلقت، ربما يأسرك الفضول وتود لو أُخبرك باسم تلك المدينة التي سحرتني وأحيتني نِسمتُها، لن أطيل أسرك كثيرًا، سأصرح لك بها وسأخبرك عنها خبرًا.. أما عن التصريح فمدينتي تلك هي " قلين " القابعة في كنف الطبيعة الساحرة بريف مصر الخالد، فتقع في عمق الدلتا تمامًا بمحافظة كفر الشيخ، أعلم أن الفضول عاد ليأسرك من جديد لتقف أمام اسم " قلين " مشدوهًا، وتتساءل لماذا يا ترى حملت هذا الاسم؟! وما معناه؟! وهل هو تاريخي أم مستحدث كغيره من الأسماء؟! الإجابة على تلك الأسئلة في الخبر الذي وعدتك بإخبارك به أنفًا علّك تتحرر من فضولك يا صديقي للأبد.

ربما تكون قد قرأت أو سمعت عن "دقليديانوس" هذا الإمبراطور الروماني الذي اعتلى عرش الإمبراطورية الرومانية عام 284 م، وقد أبدى هذا الإمبراطور الوثني تعاطفًا ملحوظًاً مع المسيحيين في بداية عهده، ولكن ما لبس أن عين ميكسيميان عام 286 م إمبراطورًا على الشرق، ومنذ هذا التاريخ البائس ذاق المسيحيين ألوان العذاب وأشد أنواع الاضطهاد، حتى أنه سُمي بعصر الشهداء.

وفي تلك الأثناء أصدر دقليديانوس منشورًا بتقديم الذبائح للأوثان، وقد عارضت كتائب كثيرة من الجيش هذا المنشور وكان منها الكتيبة الطيبوية التي كان أبنائها من مدينة الأقصر، وقد رفضت هذه الكتيبة تقديم الذبائح للأوثان ورفضت أيضًا القسم على القضاء على المسيحية في بلاد الغال (فرنسا حاليًا)، وكان جزاء تلك الكتيبة الموت بالكامل.

وكان من بين الذين رفضوا الإذعان لهذا المنشور القديس "أبسخيرون القليني" الذي ولد بمدينة قلين، وكان ضمن جنود الفرقة التي كان بأتريب (بنها)، وكان جنديًا قويًا وشجاعًا، وعندما علم الوالي بعصيان القديس أبسخيرون لأوامر ومنشور الإمبراطور أمر بسجنه ونفيه إلى الصعيد لتعذيبه كما كان متبع حينها، وهناك عُذب إلى أن أمر الوالي بقتله بعد أن أظهر معجزات كثيرة وفقًا لبعض الروايات.

وكان أهل قلين في ذلك الوقت قد أقاموا كنيسة وأطلقوا عليها اسم " كنيسة القديس أبسخيرون القليني" وكانوا يتشفعوا فيها بالقديس أبسخيرون القليني بن بلدتهم، وقد قيل أن أهل قلين كانوا يعينوا ليلة محددة لعقد الزيجات وذلك لصعوبة المواصلات حينها، وتوافق تلك الليلة مع موسم الحصاد، وفي إحدى هذه الحفلات قد تجمع نحو مائة شخص في الكنيسة، وفي أثناء الليل إجتمع مجموعة من مضطهدي المسيحية  لقتل من بداخل الكنيسة، ولكن سرعان ما نُقلت الكنيسة بمن فيها إلى البيهو في صعيد مصر، قبل أن ينفذ المضطهدون ما تآمروا عليه، وعندما خرج الناس في الصباح وجدوا أنفسهم في بلدة غير بلدتهم، حينها ظهر القديس دون أن يعرفوه، واصطحبهم حتى شاطئ النيل، وما إن ركبوا السفينة حتى وصلوا في يوم عوضًا عن ثلاثة أيام، وعند وصولهم قلين لم يجدوا الكنيسة ووجدوا مكانها بركة ماء، أُطلق عليها فيما بعد بحيرة الفليني.

قد تبدو الحكاية أسطورية، ولكن الثابت تاريخيًا أن مدينة قلين سُميت نسبة للقديس أبسخيرون القليني، وكما أن قلين الآن ساحرة بنقائها وصفائها، وبعبير نسماتها، فهي أيضًا خالدة في التاريخ، وراسخة في وجدان البشرية.. تلك هي مدينتي.

ــــــــــ

عبد الحليم حفينة

10/5/2012

الأحد، 29 أبريل 2012

هكذا تعلمنا الثورية!



ليس نبلًا ألا تنصر مظلومًا لمجرد أنك تختلف معه فكريًا، فالحق حق أن يتبع، فالحر من يدافع عن حرية الآخرين ويموت من أجلها قبل أن يدافع عن حريته، هذا ما تعلمناه من أدبيات الثوار الذين نهيم بهم عشقًا مثل ارنستو جيفارا، وما يحدث في إعتصام العباسية ليس ببعيد عن تلك المبادئ، فقد تختلف مع مؤيديين أبوإسماعيل وقد تعارض الإعتصام نفسه وتصب لعناتك على شباب الثورة وحركة 6 إبريل الذين نزلوا لمساندة أنصار أبو إسماعيل ضد طغيان وجبروت مجلس العار ، ولكني مع ذلك مؤمن إيمانًا لا شك فيه أنك يا صديقي تؤمن بحرمة الدم المصري، وشديد الإيمان بخيانة من يبيحه للوطن، فإلى الآن رحل عنا 12 شهيد، تلك الدماء التي سالت مصرية ولونها بلون دمائك التي تجري في عروقك، فليس هناك فرق بينهم وبينك أمام الرصاص، الفرق الوحيد أنهم أمام الرصاص الآن وأنت لا تزال تجلس في بيتك.


 يا صديقي ( العلماني والليبرالي واليساري والسلفي والإخواني ) دمائنا واحدة.. روحنا واحدة، فلا تترك أهوائك ونزاعاتك الأيدلوجية تتحكم في مواقفك، ما يجب أن تفعله أن تنزل في كل الميادين، تعلنها قوية " يسقط يسقط حكم العسكر "  ليس هناك ما يمنعك، سوى أنك تتخاذل في الدفاع عن حق أرواح مصرية، ليس هناك مبرر لجلوسك في المنزل غير أنك تخشى صوت الرصاص.. إعلم أن يومك أتٍ وأن لا راد لقضاء الله، ُمت مرفوع الرأس ولا تمُت كما النعاج.. فالتاريخ سيذكر حتمًا أن في هذه البلد خرج شباب لا يهابون الموت في سبيل الحرية، وتخاذل عن نصرتهم آخرون يرتعدون أمام فرعون وجنوده!

يسقط يسقط حكم العسكر

ــــــــــــــــــــــــــ
عبدالحليم حفينة
29/4/2012