الأربعاء، 21 مارس 2012

شكوى على ضفاف الموت - قصة قصيرة -


كعهدي منذ زمن أنساب على المدق العتيق في طريقي إليه كما ينساب الماء في مجراه، أهفو إليه كعصفور ُمشتاق لعشه، فهناك في مرمى العين يرقد في سكون، أنتظر لقائه دائمًا بين الفينة والأخرى، فقد إعتدت أن ألقي إليه بهمومي وأذيب في حضرته أحزاني، ُأكمل مسيرتي إليه والنفس فيها ما فيها من إشتياق.. أقترب فتظهر لي في الأفق شواهد القبور، تحضر الرهبة في نفسي كلما أتيت إلى هنا كأنه أول لقاء، أتذكره كأنني كنت معه بالأمس، فتحضرني الآن إبتسامته فأرفع رأسي إلى السماء قائلًا: كم أنت عظيم ياربي تنبت في جسدِ فانٍ إبتسامة فتصبح ذكرى بعد الرحيل!.. سبحانك ربي لك الأمر من قبل ومن بعد!
أقترب أكثر ويوشك المدق أن ينتهي، أنظر خلفي فأرى دنيا الأحياء من بعيد بمجونها المعتاد، وبسمائها المصبوغة بلون الشفق الضارب للحمرة، فأعود وأنظر أمامي فأرى مدينة الموت يكسوها السكون، فلا مجون هنا ولا صلاح، فالكل أفضى بعمله إلى الله ورقد في سكون أبدي لا يعكر صفوه إلا صخب مرافقي الأموات حديثي العهد بهذه المدينة، أسلك طريقي إلى القبر المنشود فقد اعتدت ان تأخذني قدماي إليه دون أن أتكبد معاناة البحث، فأنا الزائر القديم الذي لم ينقطع عن الإتيان هنا منذ زمن بعيد، فكل السكان هنا أعرفهم بالاسم، نعم أعرفهم بالاسم فقط.. فعلى يميني هنا يرقد المرحوم عباس الهواري وعلى يساري يرقد المرحوم أحمد ماضي المتوفي عام 1963، فليس هنا أكثر من الأسماء وتواريخ الوفاة التي إعتدت أن آنس بقرائتها حتى أصل إلى قبر والدي، القبر الوحيد الذي لا يعلو شاهده اسم أو تاريخ وفاة، ولكني أعرفه من بين ألف قبر، فلونه الأخضر يسكن في وجداني.. الآن أقف أمام القبر والآن أيضًا أشعر بحرارة اللقاء، ألقي السلام أولًا ثم أشرع في قراءة الفاتحة "............ ثم أختم بـ "آمين".. أجلس أرضًا أخاطب والدي "كيف حالك ياوالدي العزيز أعرف أني منشغل عنك بالدنيا وهمومها، ولكنك تعرف أني أجئ إليك لكي ألقي بأحمالي هنا عندك، فليس لي بعد الله سواك، فالدنيا قاسية بدونك، لقد تركتني أصارع وحوشًا لا بشرًا.. لقد فقدت عملي والحياة في غاية الصعوبة، وكما تعلم أمي مريضة لاحول لها ولا قوة، حتى من أحببتها يا أبي تزوجت بغيري، فطريقي طويل وهي لا تحب الانتظار – فليوفقها الله في حياتها الجديدة -، فقدت كل شئ تقريبًا يا أبي ولكن ربما إنها الحكمة الإلهية الخالدة في فقدان كل شئ، ثم أجد في نفسي نبت من أمل ُيعيد لي أعظم من ما فقدته، وأنت يا أبي أملي وزاد روحي، تذكرك سلوان لي في أحلك الظروف، فليس لي سوى الاستعانة بالله والجلوس عندك هنا علّي أتخلص من همومي لديك.
أهم بالوقوف أمام القبر لأرى في الأفق البعيد مدينتنا فهناك البشر الذين لا نعترف بأدميتهم أحيانًا إلا هنا في قلب الموت.. هنا فقط يجول في خاطري الواقع المرير الذي تركته وجئت هربًا منه إلى هنا كما تعودت.. أتذكر أبي القاطن في تلك المدينة البعيدة، أبي الذي لم أره يومًا أبي إلا في هذا القبر، ياله من واقع صادم.. أزور أبي الحي في القبر وأقرأ له الفاتحة.. أناجيه وأشكو له حالي هنا وهو هناك حي يرزق، ولكن ماذا عساي أن أفعل؟! وما السبيل إليه في الدنيا وهو دائم الهجر والصد، أعرف طريقي إلى أبي هنا فقط منذ كنت صغيرًا أزور جدي، كنت أعاتبه على قسوته وجفائه هنا.. وبعد أن صرت رجلًا جئت أشكو له ُمر العيش علّ شكوايا تواسيني، أطرد الواقع المرير من رأسي.. ثم أعود لأقرأ الفاتحة لوالدي وأرحل في صمت.

تمت

ــــــــــــــــــــــــــ
عبدالحليم حفينة
9/3/2012

هناك تعليقان (2):

  1. فهناك البشر الذين لا نعترف بأدميتهم أحيانًا إلا هنا في قلب الموت..)

    قصة رائعة الحبكة متناسقة الاركان كأنها استرجاع للقص القديمة التي تأخذنا بين سطورها حالمين
    (نوران)

    ردحذف
    الردود
    1. متشكر جدًا يا نوران.. وإنتي عارفه إن رأيك دا غالي عندي جدًا وبقدره جدا جدا :)

      حذف